الجمعة، 3 يونيو 2011

أنا الطفل اللي ممكن يزعج العالم بصمته

* نشرت في الثقافة الجديدة العدد 3/2011



أكتب وقد استردت الكلمات عافيتها، ودبت الحياة في أوردة المعاني التي كنا نظن أن لا أمل فيها، وأنها باتت أكلاشيهات ونغمات مبتذلة كالنضال والصمود والثورة....الخ.
كلمات كنا نرى أنها تناسب تلك الأجيال التي كافحت ضد المستعمر، أو تلك التي كان بوسعها أن تحلم في الخمسينيات وبهتت أحلامها في أعقاب الهزيمة عام 67 أو جيل العبور، و"الانتصار" الذي تشككنا فيه- نحن الشباب- الذين انكسرنا قبل أن يقوم العود، وفشلنا قبل أن نختبر رسوماتنا الطفولية بألوانها الخشبية، معبرة عن نصر أكتوبر؛ لكنني الآن أكتب محاولاً التخلي عن الضمير الفردي"أنا" أحيانا، ومتمسكا بالضمير"نحن"، وقد صالحنا تلك المعاني ونفخنا فيها من روحنا ... ولكنني أيضا مازلت أذكر "المدرس" وهو يتهمنا بالفشل قبل أن ندرك معناه.
قابضا على تلك اللحظات/الجمر التي حاولت أن أكون مستوعبا لها، وإلى أي حد هي فارقة في تاريخ مصر، ذاك الذي كنا نردد أننا نغير وجهه ووجهته، واثقين في صمودنا وفي غد لم نكن نراه إلا شبحا مخيفا، وصرنا نراه صديقاً طفلاً.
لحظات أحسست فيها أنني بكامل طفولتي وشبابي وكهولتي في آن، بداية من يوم 25 يناير المجيد، وتتوالى اللقطات والمشاهد والأحداث والحكايات والبيانات، وكنت –أنا- مشاركا منفعلاً، ومشاهداً متأملاً، ومنصتاً لما يدور حولي؛
سعيدا بكوني عاديا وسط هذا الحشد ما يمكن أن يميزني هو أنني هنا.. جزء من جسد هذه الأغنية/ الملحمة، لكنني سمعت كيف كان الميدان يردد معي كلماتي "أنا الطفل اللي ممكن يزعج العالم بصمته وممكن يجبر العالم على حسن استماعه ..بعيد عن حكمة العواجيز" ...
حاليا لا أجيد ترتيب الحكاية، لا يمكن اختصار ما حدث ولا يمكن أن نكتمه، ولكن يمكننا أن نحكيه بهدوء لا طاقة لنا به، الآن -تصوروا لدينا الآن ما نحكيه!!- لكنني متأكد من أننا لن نحتكر الحكايات البطولية علينا كما فعل السابقون، ولن نستخف بأحلام من يأتي بعدنا.
ربما كان من المفترض أن أبدأ بأسباب النزول إلى الشارع -الميدان- على وجه الدقة، أو بالغاز وآلات القمع والترهيب، أو تحية للشهداء- وهذا واجب فلولا المصادفة لكنت واحدا منهم. لكنني أبدأ من هنا "الشعب يريد....." أي كان ما أراد الشعب حينها، المهم أنه أراد في تلك اللحظة أن يكون، وأن تكون الإرادة فعلا وتصميما وتضحية لا شعارا فحسب. لقد علت أصواتنا لترفع سقف طموحاتنا، وتكشف لنا القدرة بداخلنا وما نستطيعه من ضغط وإرغام للسلطة على الرحيل والتغيير، مؤمنين بالسلم وبحقنا أن نغير بعقولنا وأحلامنا. الشعب أراد.. فكانت كل العقبات التي يضعها النظام بكامل قواه وآلاته القمعية هي درجات السلم الذي نرتقيه لنرى المستقبل أوضح.
رأيت كيف كان الناس متلهفين لصناعة الرمز/البطل، الذي طالما افتقدوا وجوده، رأيت ذلك أكثر من مرة؛ مثلا حين قام صديقي الذي كان يغنى، وكان غناؤه يعلو كلما التف الثوار المعتصمون حولنا، كيف سألوه عن اسمه وكيف رددوا على الفور "محمود وحيد مطرب الثورة...صوت الثورة" وكيف كانوا يجاملونه بالسجائر واليانسون في آن، وكنا نحاول أن نوضح أن مطربي الثورة الحقيقيين هم من نغنى لهم "سيد درويش والشيخ إمام ومحمد منير".
مرة أخرى حينما ظهر وائل غنيم بعد اعتقاله؛ كنت سعيدا به، ولكنني كنت رافضا أن يتم اختصار ما حدث في شخص وائل غنيم أو غيره، لقد تحركنا ورأينا ما لم تره مصر طوال تاريخها "الإرادة الشعبية" فالشعب قد أراد.. كان هو الرمز وكان هو البطل و المحرك. كنتُ مصرا على ذلك، وحاولت أن اقنع كل من أتكلم معه أن نلتزم الصبر، فمازال أمامنا الوقت والأيام التي ستفرز لنا الرموز والأبطال.
أذكر كيف انكشفت لنا طاقة من الحب والود و"الجدعنة والشهامة" والنظام والعزم والابتسامة التي لم تفارقنا. وكيف واجهنا منذ يوم 25 يناير مدافع مياه وغاز ورصاصات، عجز عن الرؤية واختناق وقمع، البلطجية، الخيانة من الإعلام المصري.. في اليوم الأول صعدنا إحدى العمارات في الميدان نحاول الاختباء من أفراد الأمن، الذين كانوا أسرع من مدافع المياه يحاولون اعتقال عدد من المتظاهرين، عجوز تفتح لنا باب شقتها ويحاول زوجها المسن تهدئتنا -أكثر من 30 شاب وفتاة من بيننا جرحى- نسمع من يصعدون إلى السطح و يعتقلون من اعتصم به وننتظر لحظة اقتحام أفراد الأمن؛ لن أنسى الرجل السوري الذي لا أعرف اسمه.. له مكتب بميدان التحرير اخبرنا أن مكتبه مفتوح لمن يود المبيت فيه. و مساءً كان أول من أحضر السماعات المكبرة للصوت لتعلو الأغنيات في الميدان والتي كنا نشعر أننا نسمعها لأول مرة، واستجابت لها دموع كل من في الميدان تقريبا؛ كثيرون من لن أنساهم.
أتعجب كيف التقيت بكل هذا العدد من الأصدقاء المقربين والبعيدين، و كيف التقى كل هؤلاء الناس واجتمعوا دون وسائل اتصال، بالطبع ستظل خطابات الرئيس المتنحى بسمتها البارد ملازمة لذكرياتي في تلك الأيام، لحظة إعلان التنحي وما بعدها حين "طرنا" نجرى كالأطفال ونصيح "حرية..حرية"
أحداث كثيرة ولحظات وتفاصيل من الممكن أن نسردها ونحكيها في أيام آتية لا محالة، ولكن بعد تأمل لما حدث وما يحدث الآن، لأننا ندرك جيدا أن كل هذا بداية للبداية، وأنه أمامنا معارك أخرى مع فساد ورجعية وملامح قد رسخها لها النظام البائد. ليكن إيماننا بعالم مثالي هدفا وطموحا.. لم لا؟.. اعتقد إنه أفضل بكثير من عقود كنا نؤمن فيها بـ"مفيش فايدة".
أخيرا، شكرا لجيلي الذي أفخر بانتمائي له.. شكرا لكل شهداء الكرامة والحرية، شكرا لأمي تلك التي نزلت إلى الشارع تدعو شباب الحي أن ينضموا إلينا بميدان التحرير، أذكر صوتها حين هاتفتني"أنا استعوضت ربنا فيك أنت وأخوك...ربنا معاكم". شكرا لصديقي الذي أنفجر الدم في ساقيه من طول الوقوف عند الحاجز الأمني لتنظيم الدخول إلى الميدان. شكرا لصديق آخر كاد أن يموت وهو يحمل أحد الجرحى حين أكتسح البلطجية حاجز طلعت حرب، ولآخرين معي نجمع المتطوعين لإدارة الحواجز الأمنية وبنك الطعام.. والخ، فيما عرف بلجنة تنظيم الثورة.
كل أصدقائي الذين عرفتهم وكدنا نموت معاً في الدفاع عن حريتنا وكرامتنا أشكركم وأعرف أننا تغيرنا كثيراً، شكراً لكل رجال النظام والشرطة، قنابلهم المسيلة للدموع، رصاصاتهم المطاطية والحية، البلطجية بخيولهم والحجارة والحدايد والمولوتوف.. وكل من فجر بداخلي لغم الأغنيات والنشيد الحر
شكرا لفتاة ..لم تقل لي أحبك وقالت :- تحيا الوطن

* نشرت ضمن شهادات الأدباء عن 25 يناير